الحمد الله وحده نحمده ونشكره ونستعين به ونستغفره
ونعود بالله من شرور أنفسنا
ومن سيئات أعمالنا
من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادية له
وأشهد ان لا إلاه الى الله وحده لا شريك له
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين
ومن تبعهم بالإحسان الى يوم الدين
ربنا لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الخبير
ربنا لا فهم لنا إلى ما أفهمتنا إنك أنت الجواد الكريــم
ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل لي
عقدة لساني يفقهوا قولي...
أما بعد.
سلسلة سيرة خير الأنام
الفصل الأول - في حياته قبل البعثة
الدروس والعظات:
يستطيع الباحث أن يخرج من دراسة الوقائع السالفة بالدروس والنتائج التالية:
1- أنه كلما كان الداعية إلى الله، أو المصلح الاجتماعي في شرف من قومه، كان ذلك أدعى إلى استماع الناس له، فإن من عادتهم أن يزدروا بالمصلحين والدعاة إذا كانوا من بيئة مغمورة، أو نسب وضيع، فإذا جاءهم من لا ينكرون شرف نسبه، ولا مكانة أسرته الاجتماعية بينهم، لم يجدوا ما يقولونه عنه إلا افتراءات يتحللون بها من الاستماع إلى دعوته، والإصغاء إلى كلامه، ولذلك كان أول ما سأل عنه هرقل أبا سفيان بعد أن أرسل الرسول إلى هرقل كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام هو وقومه: كيف نسبه فيكم؟ فأجاب أبو سفيان وهو يومئذ على شركه: هو من أشرفنا نسبا، ولما انتهى هرقل من أسئلته لأبي سفيان، وسمع جوابه عنها، أخذ يشرح له سر الأسئلة التي توجه بها إليه حول محمد « رسول الله صلى الله عليه وسلم» فقال له هرقل: سألتك كيف نسبه فيكم؟ فزعمت أنه من أشرفكم نسبا، وكذلك لا يختار الله النبي إلا من كرام قومه، وأوسطهم نسبا.
صحيح أن الإسلام لا يقيم وزنا لشرف الأنساب تجاه الأعمال، ولكن هذا لا يمنع أن يكون الذي يجمع بين شرف النسب وشرف الفعل، أكرم وأعلى مكانا وأقرب نجاحا، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: « خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا».
2- أن في تحمل الداعية آلام اليتم أو العيش، وهو في صغره ما يجعله أكثر إحساسا بالمعاني الإنسانية النبيلة، وامتلاءً بالعواطف الرحيمة نحو اليتامى أو الفقراء أو المعذبين، وأكثر عملا لإنصاف هذه الفئات والبر بها والرحمة لها، وكل داعية يحتاج لأن يكون لديه رصيد كبير من العواطف الإنسانية النبيلة التي تجعله يشعر بآلام الضعفاء والبائسين، ولا يوفر له هذا الرصيدَ شيءٌ مثلُ أن يعاني في حياته بعض ما يعانيه أولئك المستضعفون كاليتامى والفقراء والمساكين.
3-كلما عاش الداعية في جو أقرب إلى الفطرة، وأبعد عن الحياة المعقدة، كان ذلك أدعى إلى صفاء ذهنه، وقوة عقله وجسمه ونفسه، وسلامة منطقه وتفكيره، ولذلك لم يختر الله العرب لأداء رسالة صدفة ولا عبثا، بل لأنهم كانوا بالنسبة إلى من يجاورهم من الأمم المتمدنة أصفى نفوسا، وأسلم تفكيرا، وأقوم أخلاقا، وأكثر احتمالا لمكاره الحروب في سبيل دعوة الله ونشر رسالته في أنحاء العالم.
4- لا يتأهل لمركز الدعوة وقيادتها إلا الذكي النبيه، فالأغبياء والمتوسطون في نجابتهم أبعد الناس عن جدارة القيادة الفكرية، أو الإصلاحية، أو الروحية، بل إن من سنن الحياة ألا يتمكن من القيادة في أي ناحية من نواحي الحياة عن جدارة واستحقاق الأغبياء والمضطربون في تفكيرهم، والشاذون في آرائهم، وإذا واتت الصدفة أو الظروف واحدا من هؤلاء، فحملته إلى مركز القيادة، فسرعان ما يهوي إلى الحضيض ويتخلى عنه قومه بعد أن تدلهم أفعاله على غباوته، أو شذوذه، أو اضطراب تفكيره.
5- ينبغي للداعية أن يعتمد في معيشته على جهده الشخصي، أو مورد شريف لا استجداء فيه، ولا ذلة ولا مهانة.
إن الدعاة الصادقين الشرفاء يربؤون بأنفسهم أن يعيشوا من صدقات الناس وأعطياتهم، وأية كرامة تكون لهم في نفوس قومهم بعد أن يهينوا أنفسهم بذل السؤال والاستجداء ولو لم يكن صريحا مكشوفا. فإذا وجدنا من يدعي الدعوة والإرشاد، وهو يستكثر من أموال الناس بشتى أنواع الحيل، فإننا نجزم بمهانة نفسه في نفسه، فكيف في نفوس قومه وجيرانه؟ ومن ارتضى لنفسه المهانة، فكيف يستطيع أن يدعو إلى مكارم الأخلاق، ويقف في وجه الطغاة والمفسدين، ويحارب الشر والفساد، ويبعث في الأمة روح الكرامة والشرف والاستقامة؟
6- إن استقامة الداعية في شبابه وحسن سيرته أدعى إلى نجاحه في دعوته إلى الله، وإصلاح الأخلاق، ومحاربة المنكرات، إذ لا يجد في الناس من يغمزه في سلوكه الشخصي قبل قيامه بالدعوة، وكثيرا ما رأينا أناسا قاموا بدعوة الإصلاح، وبخاصة إصلاح الأخلاق، وكان من أكبر العوامل في إعراض الناس عنهم ما يذكرونه لهم من ماض ملوث، وخلق غير مستقيم، بل إن الماضي السيء يكون مدعاة للشك في صدق هؤلاء الدعاة، بحيث يتهمون بالتستر وراء دعوة الإصلاح لمآرب خاصة، أو يتهمون أنهم ما بدؤوا بالدعوة إلى الإصلاح إلا بعد أن قضوا لُبانتهم [حاجتهم] من ملذات الحياة وشهواتها، وأصبحوا في وضع أو عمر لا أمل لهم فيه بالاستمرار فيما كانوا يبلغون فيه من عرض أو مال أو شهرة أو جاه.
أما الداعية المستقيم في شبابه، فإنه يظل أبدا رافع الرأس ناصع الجبين، لا يجد أعداء الإصلاح سبيلا إلى غمزه بماض قريب أو بعيد، ولا يتخذون من هذا الماضي المنحرف تكأة للتشهير به، ودعوة الناس إلى الاستخفاف بشأنه.
نعم إن الله يقبل توبة التائب المقبل عليه بصدق وإخلاص، ويمحو بحسناته الحاضرة سيئاته المنصرمة، ولكن هذا شيء غير الداعية الذي ينتظر لدعوته النجاح إذا استقامت سيرته وحسنت سمعته.
7-إن تجارب الداعية بالسفر، ومعاشرة الجماهير، والتعرف على عوائد الناس وأوضاعهم ومشكلاتهم، لها أثر كبير في نجاح دعوته، فالذين يخالطون الناس في الكتب والمقالات دون أن يختلطوا بهم على مختلف اتجاهاتهم، قوم مخفقون في دعوة الإصلاح، لا يستمع الناس إليهم، ولا تستجيب العقول لدعوتهم، لما يرى فيهم الناس من جهل بأوضاعهم ومشكلاتهم، فمن أراد أن يصلح المتدينين عليه أن يعيش معهم في مساجدهم، ومجالسهم، ومجتمعاتهم، ومن أراد أن يصلح حال العمال والفلاحين، عليه أن يعيش معهم في قراهم، ومصانعهم، ويؤاكلهم في بيوتهم، ويتحدث إليهم في مجتمعاتهم، ومن أراد أن يصلح المعاملات الجارية بين الناس، عليه أن يختلط بهم في أسواقهم، ومتاجرهم، ومصانعهم، وأنديتهم، ومجالسهم، ومن أراد أن يصلح الأوضاع السياسية، عليه أن يختلط بالسياسيين، ويتعرف إلى تنظيماتهم، ويستمع لخطبهم، ويقرأ لهم برامجهم وأحزابهم، ثم يتعرف إلى البيئة التي يعيشون فيها، والثقافة التي نهلوا من معينها، والاتجاه الذي يندفعون نحوه، ليعرف كيف يخاطبهم بما لا تنفر منه نفوسهم، وكيف يسلك في إصلاحه معهم بما لا يدعوهم إلى محاربته عن كره نفسي، واندفاع عاطفي.
وهكذا يجب أن يكون للداعية من تجاربه في الحياة، ومعرفته بشؤون الناس، ما يمكنه من أن يحقق قول الله تعالى:{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]، وما أبدع القول المأثور: خاطبوا الناس على قدر عقولهم؛ أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟
8- يجب على الداعية إلى الله أن تكون له بين الفينة والفينة أوقات يخلو فيها بنفسه، تتصل فيها روحه بالله جل شأنه، وتصفو فيها نفسه من كدورات الأخلاق الذميمة، والحياة المضطربة من حوله، ومثل هذه الخلوات تدعوه إلى محاسبة نفسه إن قصرت في خير، أو زلت في اتجاه، أو جانبت سبيل الحكمة، أو أخطأت في سبيل ومنهج أو طريق، أو انغمست مع الناس في الجدال والنقاش حتى أنسته ذكر الله والأنس به وتذكر الآخرة، وجنتها ونارها، والموت وغصصه وآلامه، ولذلك كان التهجد وقيام الليل فرضا في حق النبي صلى الله عليه وسلم، مستحبا في حق غيره، وأحق الناس بالحرص على هذه النافلة هم الدعاة إلى الله وشريعته وجنته، وللخلوة والتهجد والقيام لله بالعبودية في أعقاب الليل لذة لا يدركها إلا من أكرمه الله بها، وقد كان إبراهيم بن أدهم رحمه الله يقول في أعقاب تهجده وعبادته: نحن في لذة لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها.
وحسبنا قول الله تبارك وتعالى مخاطبا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 1-7].